التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة تاليف أبي عبيد القاسم بن خلف الجُبيري الطُّرطُوشي المالكي (ت378هـ)
قال القاضي عياض: « له كتاب في التوسط بين مالك وابن القاسم فيما خالف فيه ابن القاسم مالكا، كتاب حسن »
طبع في مركز الإمام الثعالبي للدراسات ونشر التراث بالجزائر، ودار ابن حزم بيروت، بتحقيق د. الحسن حمدوشي، ط1/1428هـ/2007م
حظيت
المدونة باهتمام كبير من لدن علماء المذهب، فأُلفت الدواوين في حل
مشكلاتها، وتوضيح خَفِي مسائلها، ومن العلماء الذين عكفوا على دراسة
المدونة وأبدوا عناية كبيرة بها، الفقيه أبو عبيد القاسم بن خلف
الجُبَيْرِي الطُّرْطُوشِي الأصل، القرطبي مولدا ومنشأً، المالكي طريقةً
ومذهباً (ت378هـ) أحد وجوه العلم والفقه بالأندلس في القرن الهجري الرابع،
سمع بقرطبة من قاسم بن أصبَغ البياني (ت340هـ)، ورحل إلى المشرق فأخذ عن
أبي بكر الأبهري (ت395هـ)، وجماعة من كبار علماء عصره، أثنى عليه ابن
الفرضي فقال:«وكان فقيها عالما حسن النظر ... صدرا في أهل الشورى، وكان
يُجتَمَعُ عنده، ويناظَر عليه في الفقه، وكانت الدراية أغلبَ عليه من
الرواية»، وتتجلى عناية أبي عبيد هذا بالمدونة في كتابه الجليل القدر،
العظيم النفع الموسوم بـ«التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي
اختلفا فيها من مسائل المدونة»، وهو من كتب الخلاف المذهبي، زاد وضيق هذا
الخلاف فحصره في مسائل المدونة، وقد ألف هذا الكتاب بطلب من الخليفة الحكم
المستنصر (ت366هـ)، كما نص على ذلك في المقدمة بقوله: «وقد ضمنت كتابي هذا
أعيان المسائل التي اختلفا فيها ـ أي مالك وابن القاسم ـ من كتاب المدونة
دون ما سواه، وتوسطتُ القولَ بالعدل بينهما في ذلك، بمقدار ما بلغه علمي،
وأثمره فهمي امتثالا لأمر الإمام الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين»،
ويستفاد من هذه الفقرة أيضا أن المؤلف لم يقصد في تأليفه هذا بيان كل
المسائل التي اختلف فيها مالك وابن القاسم في المدونة بل فقط أعيان المسائل
التي ظهرت له أهمية بيانها ومناقشتها، ولو أراد استيفاء كل المسائل لطال
حجم الكتاب على ما هو عليه، وربما قصرت همته دون إتمامه.
وقد
سار المؤلف ـ رحمه الله ـ في كتابه هذا على ترتيب كتب المدونة وأبوابها،
فبدأ بكتاب الطهارة، ثم الصلاة، وهكذا حتى ختم بكتاب الرجم، ويبلغ عدد
الكتب التي تناولها في كتابه هذا أربعة وعشرين كتابا في فقه العبادات
والمعاملات، ويندرج تحت كل باب منها مسائل خلافية فقهية تصل أحيانا إلى عدة
مسائل كما في كتاب المِدْيان، وكتاب النكاح، وقد تكون واحدة فقط كما هو
الشأن في كتاب الطهارة، وكتاب الصوم.
واختار
المؤلف في كتابه طريقة تجمع بين النقل الصحيح، والنظر السديد، حيث يورد
المسألة المختلف فيها بين مالك وابن القاسم من المدونة ثم يناقشها بعيدا عن
التعصب لهذا الرأي، أو ذاك بل يُوجِّه كل قول، ويجد له مخرجا مع التماس
الأدلة من الكتاب والسنة، وإن كان الجانب العقلي في الكتاب أكثرَ بروزا منه
من الجانب النقلي، فهو غالبا ما يرجح أحد القولين بناء على ما توصل إليه
اجتهاده، ولهذا يجد القارئ في الكتاب لغة أصولية تُقَوِّي جانب النظر
والعقل المستمد من النقل، مثال ذلك: استعمال القواعد الأصولية والضوابط
الفقهية مثل: «أواخر أعمال العبادات مبني على أوائلها» و«البعض ينوب عن
الكل»، و«كل نص احتمل تأويلا فالاجتهاد فيه سائغ»، إلى جانب عدد من
المصطلحات الأصولية والتعريفات الفقهية الموجودة في الكتاب، فيكون الكتاب
بذلك من أوائل مصادر الفقه المالكي التي اعتنت بهذا الجانب، كما أنه غالبا
ما يختم مناقشته بإعطاء حكمه الفصل فيها، فيقول مثلا: «وهذا القول أحوَطُ،
وقول مالك أَقْيَسُ» و «وهذا القول أَقْيَسُ، وقول مالك أحْوَطُ»، أو «وكلا
القولين له وجه سوى أن قول مالك أعدلهما وأعلاهما عندي والله أعلم».
وسبَك
المؤلف مادة كتابه في أسلوب سهل يتلاءم مع مقصود الكتاب بعيدا عن الحشو
والغموض، ولا شك أن الجُبيري وهو يؤلف كتابه كان مستحضرا للمؤلفات الفقهية
المالكية قبله، إذ ينقل عن ابن عبد الحكم، وإسماعيل القاضي، وشيخه أبي بكر
الأبهري، وغيرهم.
وقد وصف
العلماء كتاب التوسط بالحسن والإفادة، فقال القاضي عياض:«له كتاب في التوسط
بين مالك وابن القاسم فيما خالف فيه ابن القاسم مالكا، كتاب حسن»، وزاد
ابن فرحون «حسن مفيد»، ولعل عدم شيوع الكتاب ومعرفته جعل العلماء لا يعولون
عليه كثيرا سوى القليل منهم، أمثال ابن عبد البر الذي نقل عنه في كتاب
التمهيد./ منقول الرابطة المحمدية
ــــــــــــ
مصادر ترجمتة المؤلف : تاريخ ابن الفرضي (1/410)، ترتيب المدارك (7/5)، الديباج المذهب (2/138)
دار النشر مركز الإمام الثعالبي بالجزائر، ودا ابن حزم بيروت ط/1. 1428هـ/2007م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق