اهتم الفقهاء المالكية الأندلسيون أكثر من غيرهم بالتأليف في موضوع الأقضية والأحكام، وهذا الضرب من التأليف يُمِدُّ الدارس بفوائد جمّة ومعطيات في غاية الأهمية عن مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، خلال العهود التي عاش فيها مؤلفوها.
وكتاب «فصول الأحكام، وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكّام» لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي من أبرز ما ألف في موضوع الأقضية، فهو كتاب حافل على صغر حجمه، اختصر فيه صاحبه كثيرا من عيون الأقضية والأحكام التي جرى بها العمل عند فقهاء الأندلس في عصره، وما يزيد من قيمة الكتاب كون مؤلفه فقيها ، نظارا، محققا، راوية، محدثا، متكلما، أصوليا.
وبالنظر في ديباجة كتابه نجده يفصح عن السبب الباعث له على وضعه فيقول: «فإني لما رأيت ما ابتلي به الفقهاء والحكّام، من النظر والفتوى بين الأنام في الأحكام، بادرت بكتابي هذا وخرجت غرر المحاضرة، ورؤوس مسائل المناظرة؛ مما لا يستغني الفقيه ولا الحاكم عن مطالعتها والوقوف على أصولها».
وأما المسائل التي ضمّها الكتاب فكثيرة متنوعة، منها ما يتصل بالقضاء والشهادات والتداعي، من حديث عن شروط القاضي، وما يجب له، وما يستحب له في مجلسه، وبيان مقعده، وعن الإشهاد والإقرار، والإعذار في المقالات، والتعديل والتجريح، وإيجاب اليمين، والنكول عنها، والشهادة على السماع، وما يقطع الدعوى، وغير هذا.
ومن المسائل ما يتصل بالأحكام التي يرجع إليها القاضي والمفتي، كالترشيد، والتعنيس، والسفه، والحجر، وبعض العيوب مثل عيوب الزوجين وعيوب البيع، وبعض أنواع البيوع، والحوالة، والضمان، والصلح، والوصي، والوكالة، والحمالة، والرهن، والشفعة، والقسمة، والضرر، والهبة، والصدقة، والحبس، والوصية، والعتق، والنكاح، والطلاق، والظهار، والعدة، والسلم، والكراء، والقصاص، والدية، والحدود، وغيرها من المسائل.
ونبه الباجي في مواطن متعددة من الكتاب إلى الأشباه والنظائر، والوجوه والأقسام، ونهج في عرض مسائل كتابه طريق الاختصار والاقتضاب، فلم يكن غرضه في ذلك استيعاب كل ما يتعلق بالمسالة الواحدة، وإنما اقتصر على ما يحتاج إليه منها، وقد نبّه على ذلك في مقدمة الكتاب فقال: «قصدت في ذلك الطريق المعتاد من الإيجاز والاختصار، وترك التطويل والإكثار». واستند في أحيان كثيرة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وآثار الصحابة البررة، فضلا عن أقوال كبار فقهاء المذهب وعلمائه، وتدخل بالترجيح بين الأقوال، أو بيان معانيها المرادة منها عند الاقتضاء، وإظهار الأقيس، ولم ينفك في كتابه هذا عن منهجه الحجاجي والجدلي الذي عُرف به، وأسلوبه الرائق في المناظرة، كما اهتم ببيان اختلاف الأقوال والتنازع فيها عند وجودهما، ومتى كان ثمة إجماع على قول نبّه على ذلك بقوله: «أجمع مالك وأصحابه»، أو قوله: «من أصل مذهب مالك والرواة من أصحابه»، وأشار إلى بعض الاختيارات والشاذ من الروايات، ودأب على إيراد عبارات تدل على أن جميع ما ذكره في كتابه به جرى العمل في الأندلس حينها، ومن تلك العبارات التي رددها: «وبه العمل»، «وعلى ذلك العمل عند شيوخ المذهب»، «وبقول مالك ومن قال بقوله مضى»، وقد يقول: «وبه الحكم».
وكما سلف فإن مرجع الباجي في وضع هذا الكتاب هو أقوال كبار فقهاء المذهب، وعلى رأسهم الإمام مالك بن أنس وأصحابه ومن بعدهم من الأئمة المشهورين، كما نقل فيه عن بعض شيوخ عصره الذين أبهمهم في الغالب.
ولأهمية كتاب «فصول الأحكام» وقيمته العلمية والمعرفية فإن العلماء والمصنفين منهم على الخصوص في موضوعه اعتمدوه وأخذوا منه، أمثال أبي الوليد هشام بن عبد الله بن هشام القرطبي الأزدي (ت606هـ) في كتابه «مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام»، وعبدالله بن علي بن عبد الله بن علي الكناني المعروف بابن سلمون (ت741هـ) في كتابه «العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام »، وغيرهما / منقول الرابطة المحمدية.
طبع في الدار العربية للكتاب، والمؤسسة الوطنية للكتاب سنة (1985م)، بتحقيق وتقديم محمد أبو الأجفان.
ـــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق