ينتمي كتاب منتخب الأحكام لمؤلفه أبي عبد الله محمد بن عيسى بن أبي زَمَنِين الإِلْبِيرِي الأندلسي إلى ضربٍ آخر من ضروب التأليف في الفقه المالكي، اعتنى مؤلفه خاصة بجمع مختلف الأحكام المتعلقة بمباحث الأقضية وانتخابها، مما أكسب هذا المؤلَّف الجامع شهرة وقَبولا لدى العلماء، يقول المؤلف رحمه الله: «فإن هذا كتاب جمعت فيه عيونا من مسائل الأقضية والأحكام، استخرجتها من الأمهات، وانتخبتها حِسَاناً جِيَاداً».
وتكمن أهيمة الكتاب أيضا في كونه احتفظ بكثير من النصوص وأحكام النوازل يندر وجودها في غيره من المؤلفات، كما أنه يعطي صورة واضحة عن أصول الفتيا والقضاء في المذهب المالكي بصفة عامة، وفي الأندلس على وجه الخصوص.
أما الموضوعات التي يعالجها الكتاب فكثيرة متشعبة، أبانت عن توسع المؤلف وإحاطته بما تقدمه من المصادر، فالمطالع له يجده لا يغادر كبيرة ولا صغيرة من عيون الأقضية المختلفة، وأحكام القضاء المتنوعة، وقد أحسن المؤلف الصنيع لما جعل مؤلفه ينتظم في أجزاء تتفرع عن كل كتاب منها أبواب ومسائل، ويكفي هنا ذكر عناوين كتبه لتدل في عمومها على ما يترتب تحتها من تلك الأبواب والمسائل.
قسم المؤلف مؤلفه إلى عشرة أجزاء بيانها كالآتي: مسائل الدعوى - مسائل القضاء - مسائل الشفعة - مسائل الحيازة - مسائل النكاح - مسائل الطلاق - مسائل البيوع - مسائل العيوب - مسائل الإجارة، ثم مسائل مختلفة ومتفرقة على عادة علماء المذهب الذين يخصصون لما تفرق وتناثر من المسائل بابا خاصا به غالبا ما يعنونونه بالجامع.
أما عن منهج المؤلف في إطاره العام فإنه وضع لكل مسألة عنوانا يلخص ما تحتها من فروع وأحكام، و دَرَجَ في بداية كل مسألة على ذكر المصادر التي يأخذ منها، وبيان ما يكون من كلامه هو بذكر اسمه قبله بقوله «قال محمد»، وعَمَدَ إلى تهذيب المسائل وتلخيصها كلما دعته الحاجة إلى ذلك، محتفظا في الغالب الأعم على ألفاظ أصحابها، وقد تمكن من ذلك وَبَرَع فيه إلى أَبْعَد حَدٍّ.
وقد كانت شخصية المؤلف ظاهرة في كل جزئية من جزئيات الكتاب، فتجده مفسرا للمسائل وموجها لها وفق أصول المذهب، ومبينا لزيادات بعض الرواة على بعض، ومعقبا ومكملا، ومقارنا بين الأقوال ؛ فمن العبارات التي يتكرّر ورودها في الكتاب مما يدل على ما ذُكر من عمل المؤلف قوله: «ومعنى هذه المسألة كذا»، « وهذه المسألة يستدل بها على كذا»، «وزاد فلان في هذه المسألة»، «وكان فلان يقول في هذه المسألة»، «وذكر بعض الرواة كذا»، «وبين أصحاب مالك اختلاف في كذا»، «وفيه تنازع»، «ولم يعطنا في هذه المسألة جوابا بينا في الخلاف»، «ومن تدبر ما قاله في هذه المسألة فينبغي على أصولهم»، «وهذا أشبه بأصولهم»، «وهذا صحيح على أصولهم»، «وقول فلان أَقْيَس»...
أما موارد المؤلف في كتابه فتأتي مدونة سحنون (240هـ) على رأس المصادر التي اعتمدها وانتخب منها، إلى درجة يبدو معها الكتاب وكأنه اختصار وتهذيب لها، ثم تأتي بعد المدونة العتبية (المستخرجة) لمؤلفها محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة المشهور بالعُتْبِي (255أو254هـ) ، ثم الواضحة لعبد الملك بن حبيب(ت 238 هـ)، فعلى هذه الكتب الثلاثة المعروفة بالأمهات بنى المؤلف كتابه. وهناك مصادر أخرى لا تقل عنها أهمية مثل الكتب المدنية لعبد الرحمن بن دينار (201هـ)، ومختصر ابن عبد الحكم (ت 214 هـ) ، وكتاب الجامع لابن سحنون (256هـ)، والكتب الثمانية لأبي زيد القرطبي (258هـ)، وكتاب ابن مُزَيْن (259هـ)، والمجموعة لابن عَبْدُوس(ت 260 هـ)، والموازية لابن المواز (ت 269 هـ)، وغيرها.
فهذه أمهات المؤلفات الفقهية المالكية الجامعة لأقوال كبار علماء المذهب وأشهر فقهائه اجتمعت في هذا الكتاب، فلا عجب أن يكون كتاب منتخب الأحكام حاز من الشهرة والحظوة والانتشار ما حاز . قال الإمام الذهبي في تاريخه - وهو يذكر مؤلفات ابن أبي زمنين-: «كتاب منتخب الأحكام سار في الآفاق»، وقال عنه في سير أعلام النبلاء: «مشهور»، وقد سبق القاضي عياض الذهبي إلى مثل هذا القول حين قال: «ظهرت منفعته، وطار بالمشرق والمغرب ذكره».
ولم يبالغ القائل في وصفه حين قال:
يسر به الحكام في كل وجهة ويحظى بما فيه الفقيه المشاور
ومن يقرأ الكتاب يجده ينطق بكثير من أحكام القضايا المعروضة على الساحة العلمية اليوم، خاصة في مجال القضاء، ويجد فيه نصوصا في غاية النفاسة، فَحَرِيٌّ أن يُدْرَس ويُدرَّس وينال من الخدمة والبحث ما يستحقه.
طبع الجزء الأول والثاني من الكتاب بتحقيق الدكتور عبد الله بن عطية الغامدي، صدر عن مؤسسة الريان -بيروت ط1/1998، وصدر محققا بجميع أجزائه العشرة عن مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية؛ تحقيق الدكتور محمد حماد./ موقع الرابطة
ــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق